السبت، 29 نوفمبر 2014

يا الافندية








على مهل، كانت الثروة في مصر تشق مجرى جديدًا في نهر الوطن.
لم يكن التحول بين ليلة وضحاها، وإنما امتد لعقود طويلة، لكنه شهد أبرز محطاته في عصرين: محمد علي وإسماعيل.
قبل محمد علي، كانت الصورة ضبابية بالنسبة لمفهوم الرأسمالية المصرية، وكانت فكرة الأفندية في رحم الغيب، وكان دور الشوام وتأثيرهم موضوعا غير مطروح للنقاش.

ويؤرخ الباحثون عادةً لظهور الرأسمالية المصرية بعهد محمد علي، فقد تمكن من وضع البذور التاريخية للرأسمالية المصرية أثناء محاولاته تشكيل طبقة من كبار المُلاك تكون عونـًا له في حكمه، وبالفعل مثلت هذه العناصر النواة الحقيقية لتلك الرأسمالية التي بدأت تتشكل أبعادها وملامحها ابتداء من عهدي سعيد وإسماعيل .

إلا أن محمد علي لم يسعَ إلى تشكيل تلك الطبقة بمحض إرادته؛ إذ اضطر في عام 1836/1837 تحت ضغوطٍ خارجية وداخلية (مثل ضغوط الأزمة النقدية وهروب الفلاحين من الأرض) إلى التخلي جزئيـًا عن سيطرته المركزية على الأرض؛ ليظهر، طبقـًا لقرار فبراير 1837 (ثم قرار فبراير 1842    الذي أباح لحائزي تلك الأراضي حق البيع والشراء والتنازل والرهن)، 

ما يعرف بالعُهد[، والأبعاديات، والجفالك (أو الشفالك)،
التي ساهمت في تشكيل طبقةٍ من كبار المُلاك، ضمت في البداية مشايخ القرى والبدو والعربان، والموظفين المساعدين، والكتبة وأئمة المساجد.
ولا بدّ من القول إن تقسيم المجتمع إلى طبقات ليس هدفـًا في حد ذاته،

وإنما هو وسيلة تسهل تحليل الصراع الطبقي في المجتمع،

وذلك لأن هيكل العلاقات الطبقية أو البنية الطبقية، يمثل السياق الذي يحدث فيه الصراع الطبقي والتغير الاجتماعي.

والحقائق التي تُعرف بها الطبقة تختلف من حيث طبيعتها أشد الاختلاف. وهذه الحقائق تضم الثروة والمهنة أو العمل ونوع الحياة والتربية الثقافية.
والثروة والدخل قيمة مادية تتعلق بحجم ما يملكه الفرد من أصول وأموال تدر عليه عائدا دوريا منتظمـًا،
وتجعله ينضم إلى طبقة معينة،
وهي طبقة الأثرياء. وقد تبدو الطبقة أحيانـًا مستقلة عن الثروة ومتصلة بالمهنة أو الوظيفة،
فيكون للمهنة بذلك دور في تحديد الطبقة، فيُقالُ طبقة العمال وطبقة الفلاحين.. إلخ.

ويلفت كثيرون الانتباه إلى اعتناء محمد علي بنشر التعليم على اختلاف درجاته، واهتمامه بتأسيس المدارس الابتدائية والتجهيزية ومؤسسات التعليم العالي - ومن ذلك مدرسة الطب في أبي زعبل ومدرسة الطب البيطري والمهندسخانة ومدرسة الألسن- وإيفاد البعثات إلى الخارج، مما أدى في نهاية الأمر إلى تكوين طبقة من المتعلمين تعليمـًا عاليـًا (الأفندية)،

استعان بهم في القيام بأعمال الحكومة والعمران في البلاد. وجاء الخديو إسماعيل ليكمل البناء الذي وضع حجر أساسه
.
ويمكن القول إن الخديو إسماعيل أقال التعليم الحديث من عثرته؛
إذ أعاد المدارس التي أغلقت بعد عصر محمد علي إلى العمل مرة ثانية، وأعاد تأليف ديوان المدارس، 
ووَّجه همته إلى إنشاء المدارس على اختلاف أنواعها
كما أنشأ مدارس عالية كان لها الفضل في النهضة العلمية والأدبية والفكرية التي ظهرت في عصره،
كما ساهمت تدريجيـًا في تغيير المستوى الطبقي والوضع الاقتصادي لعدد كبير من خريجيها.
ومن هذه المدارس: مدرسة المهندسخانة التي أنشئت في العباسية عام 1866،
 ثم نقلت إلى الجيزة عام 1868، ومدرسة الحقوق التي أنشئت عام 1868،
وكان اسمها مدرسة (الإدارة والألسن) وسميت مدرسة الحقوق منذ عام 1886،
وفيها تخرج معظم رجال القانون الذين نبغوا في عصر إسماعيل والعصور التي تلته..

ومدرسة دار العلوم التي تأسست عام 1872، بهدف تخريج أساتذة اللغة العربية للمدارس الابتدائية والثانوية (أو التجهيزية)


كما أنشأ إسماعيل عددًا من المدارس الصناعية أبرزها مدرسة الفنون والصنائع التي أنشئت عام 1868.
وأنشأ أيضـًا عددًا كبيرًا من المدارس الابتدائية (1868- 1879) وذلك بعد أن منح إيرادات 10 آلاف فدان للمدارس،

 بغرض إنشاء مدرسة في كل مديرية لتعليم الأحداث القراءة والكتابة وبعض العلوم،
 كما تبرع لهذه المدارس بجفلك الوادي وهو عبارة عن 22 ألف فدان


ولعل ميزانية التعليم هي مؤشر على اهتمام إسماعيل بالتعليم؛
إذ لم تكن تتجاوز 6000 جنيه سنويـًا، لكنها ازدادت في عصره إلى 40 ألف جنيه سنويـًا،

وبلغت في أقصى مداها 75 ألف جنيه سنويـًا، لكنها عادت وتناقصت في أواخر عهده بسبب الارتباكات التالية التي سببتها قروضه فهبطت إلى 20 ألف جنيه

ومن الأهمية بمكان أن نوضح أن ازدهار التعليم
- إضافة إلى ظهور مطبعة بولاق عام 1820 والتوسع في كمية الكتب المطبوعة- أدى إلى ازدهار طبقة اجتماعية واقتصادية جديدة من المتعلمين هي طبقة 

"الأفندية"  

التي كانت قد بدأت في الظهور منذ عصر محمد علي، وظلت تزداد شيئـًا فشيئـًا حتى محت الأرستقراطية القديمة التي كانت تضم الشراكسة والأتراك. 

مثلت طبقة "الأفندية" ركيزة أساسية في صناعة وتحديث المجتمع المصري، 

وتكونت الطبقة الجديدة من خريجي المعاهد والمدارس بمختلف أنواعها،

 فكان منهم المحامون والمهندسون والأطباء والصحفيون والمدرسون والموظفون والكُتاب والأدباء،

 وغيرهم ممن كان لهم دور أساسي وتأثير كبير على الحياة الاقتصادية والسياسية في مصر خلال القرن العشرين



المنحة ياريس شوف هاتوديها فيييييين



 
 
إذا كانت هناك مآخذ على فترة حكم الخديو إسماعيل، فإن من أبرز مزايا ذلك العصر هو الإنفاق على التعليم،

الأمر الذي عزز تكوين تلك الطبقة الجديدة.

لقد أغدق الخديو إسماعيل هباته على العلم والمتعلمين،

بدءًا من زيادة مرتبات تلاميذ المدارس وانتهاء بمكافأة النابهين والنابغين بالمنح والعطايا،

الأمر الذي أدى إلى حدوث تغير كبير في وضع هؤلاء الأفندية ومكانتهم،

حتى أصبحوا من ركائز المجتمع المصري.

 ونتيجة لهذه السياسة التعليمية التي ربطت بين المؤهل الدراسي،

 وبين تقلد الوظائف الحكومية، والحصول على امتيازاتها العديدة، وصولاً إلى درجةٍ من درجات الثراء،

 ازداد إقبال كل الطبقات الاجتماعية وتهافتها على تعليم أبنائها.


ومن أبناء فلاحين إلى تلاميذ في مدارس الباشا (محمد علي) أو الخديو (إسماعيل)،

ووصولاً إلى التعيين كموظفين حكوميين أو موظفين كبار، حدثت نقلة اقتصادية واجتماعية أقرب إلى الطفرة.

دعونا لا ننسى "إنعامات" الباشا!

فعلى سبيل المثال، كان رفاعة رافع الطهطاوي من أسرة فقيرة، إلى أن أنعم عليه محمد علي ب250 فدانـًا في طهطا،

ثم منحه الوالي سعيد 200 فدان أخرى، ثم أنعم عليه الخديو إسماعيل بـ 250 فدانـًا ثالثة، واشترى رفاعة 900 فدان وأقام عمائر ومباني. وفي عام 1880 كان ورثته مالكين لـ 2500 فدان.

أما مصطفى بهجت، وهو ابن فلاح فقير، فقد نبغ في الرياضيات والهندسة، وأسهم في وضع تصاميم القناطر الخيرية، ونال 1800 فدان منحة من محمد علي باشا، ثم جاء الخديو عباس ليمنحه 400 فدان، ليصبح ما يمتلكه 2200 فدان.

مصدرٌ آخر لأملاك الموظفين تمثل في الأراضي التي كانت تُمنح لهم كمعاش عند إحالتهم إلى التقاعد وفقـًا للقرار الصادر في نوفمبر 1860، 
والذي كان يقضي بمنح كل من يرغب من المستخدمين أطيانـًا بدلاً من معاشهم،

 ثم صار إعطاء الأراضي للموظفين بهذه الصفة إجباريـًا بعد ذلك، عندما صدر في يناير 1861 أمرٌ يقضي بأن من لا يوافق على أخذ الأطيان نظير معاشه يُحرَم من المعاش.

وفي ظل هذه الأوضاع، بدت الوظيفة طريقـًا إلى الثراء وتحسين الوضع المالي للفرد والعائلة.

وفي دراستها المهمة عن طبقة الأفندية في مصر، توضح د. عبير حسن عبدالباقي أن الأفندية المصريين لم يكونوا على مستوى اقتصادي واجتماعي واحد. فقد انتمى بعضهم إلى طبقة الأعيان
 - التي تحوي بداخلها كبار المُلاك والتجار وعُمد ومشايخ القرى

- في حين انتمى البعض الآخر إلى الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها من موظفي الحكومة وأصحاب المهن الحرة وصغار المُلاك والتجار.

وعلى سبيل المثال، فقد كان أستاذ الجيل أحمد لطفي باشا السيد (15 يناير 1872- 5 مارس 1963) والده السيد باشا أبو علي عمدة قرية برقين - من أعمال مركز السنبلاوين- وكان يمتلك مئات الأفدنة.

أما المفكر والسياسي د. محمد حسين هيكل (20 أغسطس 1888- 8 ديسمبر 1956) فقد كان والده عمدة قرية كفر غنام - إحدى قرى السنبلاوين- وكذلك كان جده لأبيه. وقد أرسله والده على نفقته الخاصة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا حتى نالها عام 1912.

ومن أبناء تلك الطبقة أحمد فتحي زغلول (فبراير 1863- 27 مارس 1914)، الشقيق الأصغر للزعيم الوفدي سعد زغلول. وفتحي زغلول هو أصغر أبناء إبراهيم زغلول من أعيان قرية إبيانة بمديرية الغربية (سابقـًا، كفر الشيخ حاليـًا)، وقد وفر له انتماؤه إلى إحدى عائلات الأعيان المصرية استقرارًا ماديـًا ساعده على دراسة القانون في أوروبا، كما عُيِنَ في القضاء وتدرج في مناصبه حتى أصبح رئيسـًا لمحكمة مصر. واستثمر فتحي زغلول الفائض لديه في شراء الأراضي حتى بلغت ممتلكاته عام 1902 نحو 312 فدانـًا.

ومن الأفندية الذين انتموا إلى الطبقة الوسطى، محمد علي علوبة "باشا" (1875 - 1956).
وهو عالم بالحقوق، من رجال السياسة المصرية. ولد في أسيوط وتخرج في مدرسة الألسن بالقاهرة (1899)، واحترف المحاماة. كان والد محمد علي علوبة ممن شغلوا وظائف حكومية مختلفة، حتى صار رئيسـًا لكتاب مديرية المنيا، ثم رئيسـًا لكتاب مجلس استئناف وجه قبلي، إلى أن ترك خدمة الحكومة وعمل في الأعمال الحرة ليصبح من أعيان بندر أسيوط، ومن أعضاء مجالسها المحلية والحسبية وأنعم عليه بالرتبة الثالثة. توفي الأب عام 1907 وهو مدين، تاركـًا محمد علي علوبة غارقـًا في الدين، فبادر إلى تسديد تلك الديون مما باعه من أملاك والده.
كان ذلك قبل أن يصبح الابن أحد مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين، ويُعيَن وزيرًا للأوقاف المصرية، ثم وزيرًا للمعارف، فالأشغال، وكان أول من عُين سفيرًا لمصر في باكستان بعد انفصالها عن الهند عام 1947.


مثال آخر هو مكرم عبيد (25 أكتوبر 1889- 5 يونيو 1961) الذي شغل منصب سكرتير حزب الوفد. كان والده يمتلك 30 فدانـًا فقط، ثم تحول إلى مجال المقاولات فجمع ثروة كبيرة وامتلك 900 فدان من أراضي الدائرة السنية، فأرسل مكرم إلى لندن وباريس على نفقته الخاصة لاستكمال تعليمه.

وهناك عددٌ كبير من الأفندية ممن انتموا إلى الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، مثل الزعيم الوطني مصطفى كامل (14 أغسطس 1874- فبراير 1908) الذي وُلِدَ ونشأ في حي الصليبة بقسم الخليفة في القاهرة، وكان والده علي أفندي محمد ضابطـًا ومهندسـًا.

وتضم القائمة أيضـًا الزعيم الوفدي مصطفى النحاس (1879- 1965) وكان ابن تاجر أخشاب متوسط الثراء في سمنود بالغربية.

أما الاقتصادي المعروف طلعت حرب (25 نوفمبر 1867- 13 أغسطس 1941) فقد كان ابنـًا لعائلة من الريف لا تمتلك إلا مساحة محدودة من الأرض، وآلت إليه ملكية فدان واحد في قريته ميت أبو علي بمحافظة الشرقية، مما اضطره إلى الهجرة إلى القاهرة والعمل بمصلحة السكة الحديد، قبل أن تتغير أحواله ويصبح مؤسس بنك مصر، وعضو مجلس إدارة البنك العقاري المصري، ومطبعة مصر. وبسبب بعض الديون تم بيع جزء من الأرض التي كان يملكها للوفاء بها.