الأحد، 31 مايو 2015

مقدمة د.عبد الحليم محمود في قضية التصوف

مقدمة د.عبد الحليم محمود في قضية التصوف



و الإمام الغزالي يتشبث بالرؤيا كبرهان و دليل على أن هناك آلة للمعرفة غير الحسن و العقل، و يردد ذلك في كثير من كتبه.
إنه يتحدث في المنقذ عن النبوة فيقول: و قد قرب الله تعالى ذلك على خلقه بأنه أعطاهم أنموذجا من خاصية النبوة و هو النوم. إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب، إما صريحا و إما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير. و هذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه و قيل له :إن من الناس من يسقط مغشيا عليه كالميت ، و يزول عنه إحساسه و سمعه و بصره فيدرك الغيب لأنكره ، و أقام البرهان على استحالته ، وقال القوى الحساسة سبب الإدراك فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها و حضورها فبألا يدركها مع ركودها أولى و أحق.و هذا نوع قياسي يكذبه الوجود و المشاهد.
و لكن الإمام الغزالي لا يكتفي بهذين الوجهين من الاستدلال ، بل يأتي بشواهد الشرع و يذكر التجارب و الحكايات.
أما الشواهد فيما يرى فهو قوله تعالى: و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.
و قوله صلوات الله عليه و آله و سلامه : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
و قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا.
قيل نور يفرق به بين الحق و الباطل ، و تخرج به من كل الشبهات، و سئل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن قوله تعالى:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه.
ما هذا الشرح؟ فقال هو التوسعة . إن النور إذا قذف به في القلب اتسع له الصدر و انشرح. و قال عليه الصلاة و السلام:
إن من أمتي محدثين و معلمين و مكلمين وإن عمر منهم.
و المحدث هو الملهم؛ و الملهم هو الذي انكشف له الحق في باطن قلبه من جهة الداخل لا من جهة المحسات الخارجية. و القرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية و الكشف.
و لم يكن علم الخضر عليه السلام علما حسيا أو عقليا ، و إنما هو العلم . العلم الرباني، و إليه الإشارة بقوله عز و جل: و علمناه من لدنا علما.

5- المنهج الصوفي منهج إسلامي
المنهج إذن : منهج إسلامي صحيح سليم لا غبار عليه..ثم هو منهج فلسفي برغم من معارضة الفلاسفة العقليين يقره الكثير من كبار الفلاسفة الغربيين و الشرقيين و من القدماء و المحدثين.
ثم هو منهج جرب فنجح ؛ جربه الإمام الغزالي فنجح و عنه يقول الإمام الغزالي: و انكشف لي في أثناء هذة الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها و استقصاؤها، و القدر الذي أذكره لينتفع به أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، و أن سيرتهم أحسن السير ، و طريقهم أصوب الطرق، و أخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء و حكمة الحكماء و علم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرتهم و أخلاقهم و يبدلوه بما هو خير منه ؛ لم يجدوا إليه سبيلا فإن جميع حركاتهم و سكناتهم في ظاهرهم و باطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة. و ليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به . و بالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها و هي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى ؟ و مفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله و آخرها الفناء بالكلية في الله.
وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت تيار الاختيار و الكسب من أوائلها و هي على التحقيق أول الطريقة. وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه.
و من أول الطريقة تبتدئ المكاشفات و المشاهدات ، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة و أرواح الأنبياء . و يسمعون منهم أصواتا و يقتبسون منهم فوائد ثم يترقى في حال من مشاهدة الصور و الأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
و عن هذا يقول الأستاذ رينيه جينو الحكيم الفرنسي في محاضرة ألقاها في جامعة باريس يقول متهكما بهؤلاء الذين يشكون في هذا المنهج، ساخرا من موقفهم الذي يصور الكسل المزري : (يتساءل قوم :أمن الممكن أن نتخطى الطبيعة فنصل إلى ما وراءها؟ إننا لا نتردد في أن نجيبهم في وضوح واضح: ليس ذلك ممكنا فحسب، و لكن ذلك واقع موجود. سيقولون تلك قضية تفتقر إلى برهان؟ و لكن أي برهان يمكن أن يقدمه الإنسان على وقوع هذا الأمر و وجوده؟ إنه لمن الغريب حقا أن يطلب البرهان على إمكان نوع المعرفة ، بدلا من أن يحاول الإنسان أن يصل إليها بتجربته الشخصية، سالكا إليها ما تتطلبه.
إن الشخص الذي وصل إلى هذه المعرفة لا يعنيه في قليل أو كثير ما يثور حولها من جدل و نقاش. و إنه لمن الواضح أن إحلال نظرية المعرفة محل المعرفة نفسها إعلان صريح على عجز الفلسفة الحديثة) .

6- لا يكتسب التصوف عن طريق القراءة
و المنهج إذن : إنما هو تزكية النفس ، أو إجلاء البصيرة كيف يتأتى ذلك ؟.
هل يتأتى عن طريق القراءة و الدرس؟ هل السبيل إلى معرفة الغيب مباشرة هو البحث و الدرس و الاستقصاء ، و يتفاوت الناس في الإشراق تفاوتهم في شمول الدراسة و عموم التحصيل؟! كلا قطعا يقول الإمام الغزالي معبرا عن الرأي الصحيح المبني على التجربة نفسها :(ابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم ؛ مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله ، و كتب الحارث المحاسبي ، و المتفرقات المأثورة عن الجنيد و الشبلي و أبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم و غير ذلك من كلام مشايخهم. حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلية و حصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم و الاستماع ، فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم ، بل بالتذوق و الحال و تبدل الصفات و كم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة و حد الشبع و أسبابهما و شروطهما ، و بين أن يكون صحيحا و شبعان. و بين أن يعرف حد السكر و أنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبين أن يكون سكران . بل السكران لا يعرف حد السكر ، و علمه و هو سكران و ما معه من علمه شئ . و الطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة و أسبابها و أدويتها و هو فاقد الصحة كذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد و شروطها و أسبابها و بين أن يكون حالك الزهد و عزوف النفس عن الدنيا . فعلمت يقينا : أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال ، و أن ما يمكن تحصيله بطرق العلم فقد حصلته و لم يبق إلا ما لا سبيل له بالسماع و التعلم ، بل بالذوق و السلوك)؟
و ابن سينا حينما أراد أن يحدد طريق البصيرة حتى يصير سر الإنسان _ على حد تعبيره_ مرآة مجلوة .لم يحدد ه بقراءة و بحث ، و إنما حدده بإرادة و رياضة
و أبو الحسن النوري يرى في صراحة أن التصوف ليس علما ، و يعلل ذلك بأنه لو كان علما لحصل بالتعلم . و لكن الأمر ليس كذلك و ليس طريقة تزكية النفس إذن العلم الكسبي.
7- التصوف و الأخلاق
أهو الأخلاق الطيبة؟ إن الكثير من الكتاب الحديثين _ متابعين في ذلك الكثير من الصوفية _قد حددوا التصوف نفسه _لا تزكية النفس و حسب _بأنه الخلق الطيب. يقول أبو بكر الكتاني (المتوفي سنة 322 هـ )التصوف خلق ، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء و يقول أبو محمد الجريري المتوفى 311هـ _ و قد سئل عن التصوف_ الدخول في كل خلق سني ، و الخروج من كل خلق دني أما أبو الحسن النوري فإنه ينفي عن التصوف أن يكون رسما منهجيا تخطيطيا ، أو أن يكون علما كسبيا ، و يجزم يأنه خلق. و يعلل النفي و الإثبات فيقول:ليس التصوف رسما و لا علما ، و لكنه خلق، لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة، و لو كان علما لحصل بالتعليم ، و لكنه تخلق بأخلاق الله ، و لن تستطيع أن تقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم على أن أبا الحسن النوري نفسه يحدد الأخلاق التي يرى أنها التصوف فيقول في موضع آخر معرفا التصوف: التصوف الحرية ، و الكرم ، و ترك التكلف ، و السخاء على أن هؤلاء الذين ذكروا هذه التعريفات الأخلاقية للتصوف. ذكروا هم أنفسهم تعاريف أخرى و ذلك _على الأقل_ يدل دلالة لا لبس فيها على أنهم : لم يروا كفاية الجانب الأخلاقي في تحديد التصوف ، و تعريفه و الواقع أننا لو نظرنا إلى كثير من الأشخاص الذين اشتهروا بالسمو في الجانب الأخلاقي الكريم ، و اتصفوا بأروع الصفات الأخلاقية ، و اتخذوا الفضيلة مذهبا و شعارا ، فإننا نجدهم أشخاصا مثاليين ، في المحيط الأخلاقي و في المجتمع ، و لكن ليس معنى ذلك أنهم لا محالة من الصوفية . و لو نظرنا في البيئة لوجدنا داعية إلى الفضيلة و متذهبا بها ، و محاولا نشرها بشتى الوسائل و بمختلف الطرق
سواء أكان ذلك بالدعوة الاقناعية أم بالمنطق الجدلي ، أم بالأسوة الكريمة ذلك هو سقراط . و مع ذلك فإن سقراط هذا لم يكن صوفيا بالمعنى الدقيق لكلمة صوفي
و إذا انتقلنا إلى البيئة الإسلامية فإننا نجد الحسن البصري _ رضي الله عنه_ من أروع و أجمل الشخصيات الأخلاقية العالية . لقد كان مثلا صادقا للشعور الأخلاقي في طهره و صفائه . و كان ينشر الفضيلة بوعظه المؤثر و منطقه القوي و سلوكه المثالي و مع ذلك فلم يكن الحسن البصري صوفيا بالمعنى الدقيق لكلمة صوفي
على أنه من الطبيعي أن تكون الأخلاق الكريمة أساسا من أسس التصوف . و أن تكون الأخلاق في أسمى صورة من صورها ثمرة التصوف
و من الطبيعي أيضا أن تكون الأخلاق الكريمة شعار الصوفي فيما بين الأساس و الثمرة فهي إذن ملازمة للتصوف و للصوفي ملازمة تامة ، لا تتخلى عنه و لا يتخلى عنها . و يعبر ابن سينا عن بعض ما يتحلى به الصوفي من أخلاق ، معللا ذلك فيقول : العارف شجاع ، و كيف لا و هو بمعزل عن محبة الباطل؟ و صفاح ، و كيف لا و نفسه أكبر من أن تجرحها زلة بشر ؟ و نساء للأحقاد ، و كيف لا و ذكره مشغول بالحق؟ و لكن ليس معنى ذلك أنها هي _ و هي فقط _ التصوف.د
من كتاب قضية التصوف المدرسة الشاذلية ط دار المعارف 

ليست هناك تعليقات: